شرح العلامة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله
شرح أحاديث رياض الصالحين باب الصَّبر
أحاديث رياض الصالحين
باب الصبر الحديث رقم 43
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم حُنين، آثر رسول الله ﷺ ناسًا في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عُيينة بن حصن مثل ذلك، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة. فقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عُدل فيها، وما أُريدَ فيها وجه الله، فقلت: والله لأخبرن رسول الله ﷺ، فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصِّرْف ثم قال: (فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال: يرحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) فقلت: لا جَرَمَ لا أرفع إليه بعدها حديثًا. متفق عليه.
وقوله (كالصِّرْف) هو بكسر الصاد المهملة: وهو صبغ أحمر.
الشرح
هذا الحديث الذي نقله المؤلف رحمه الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه لما كان غزوة حنين وهي غزوة الطائف التي كانت بعد فتح مكة، غزاهم الرسول ﷺ وغنمَ منهم غنائم كثيرة جدًا من إبل، وغنم، ودراهم ودنانير، ثم إن النبي ﷺ نزل بالجِعرَّانة، وهي محل عند منتهى الحرم من جهة الطائف، نزل بها وصار ﷺيقسمُ الغنائم، وقسم في المؤلفة قلوبهم أي: في كبار القبائل يؤلفهم على الإسلام، وأعطاهم عطاء كثيرًا، حتى كان يعطي الواحد منهم مائة من الإبل.
فقال رجل من القوم: والله إن هذه قسمة ما عُدِلَ فيها وما أُريد فيها وجه الله نعوذ بالله يقول هذا القول في قسمة قسمها رسول الله ﷺلكن حب الدنيا والشيطان يوقع الإنسان في الهَلَكة. نسأل الله العافية. هذه الكلمة كلمة كفر، أن ينسب الله ورسوله إلى عدم العدل، وإلى أن النبي ﷺ لم يُرد بها وجه الله، ولا شك أن النبي ﷺ أراد بهذه القسمة وجه الله، أراد أن يؤلِّف كبار القبائل والعشائر من أجل أن يتقوَّى الإسلام، لأن أسياد القوم إذا ألفوا الإسلام وقوي إيمانهم بذلك حصل منهم خير كثير، وتبعهم على ذلك قبائل وعشائر، واعتز الإسلام بهذا.
ولكن الجهل والعياذ بالله يوقع صاحبه في الهلكة.
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سمع هذه الكلمة تُقالُ في رسول الله ﷺ أخبر بها النبي ﷺورفعها إليه.
أخبره بأن هذا الرجل يقول كذا وكذا، فتغيَّر وجه الرسول ﷺحتى كان كالصِّرْف أي كالذهب من صُفرته وتغيُّره، ثم قال: (فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله) وصدق النبي عليه الصلاة والسلام! إذا كانت قسمة الله ليست عدلا، وقسمة رسوله ليست عدلا، فمن يعدل إذًا! ثم قال (يرحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر).
والشاهد من الحديث هذه الكلمة، وهي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يؤذَون ويصبرون، فهذا نبينا ﷺ قيل له هذا الكلام بعد ثماني سنين من هجرته. يعني ليس في أول الدعوة، بل بعدما مكّن الله له، وبعدما عُرف صدقه وبعدما أظهر الله آيات الرسول في الآفاق وفي أنفسهم، ومع ذلك يقال: هذه القسمة لم يعدل فيها ولم ُيرد بها وجه الله.
فإذا كان هذا قول رجل في صحابة النبي عليه الصلاة والسلام للنبي ﷺ فلا تستغرب أن يقول الناس في عالمٍ من العلماء: إن هذا العالم فيه كذا وفيه كذا ويصفونه بالعيوب، لأن الشيطان هو الذي يؤذ هؤلاء على أن يقدحوا في العلماء، لأنهم إذا قدحوا في العلماء وسقطت أقوالهم عند الناس ما بقي للناس أحد يقودهم بكتاب الله. من يقودهم بكتاب الله إذا لم يثقوا بالعلماء وأقوالهم؟ تقودهم الشياطين وحزب الشيطان، ولذلك كانت غيبة العلماء أعظم بكثير من غيبة غير العلماء، لأن غيبة غير العلماء غيبة شخصية، إن ضرَّت فإنها لا تضر إلا الذي اغتاب والذي قيلت فيه الغيبة، لكن غيبة العلماء تضر الإسلام كله؛ لأن العلماء حملة لواء الإسلام، فإذا سقطت الثقة بأقوالهم؛ سقط لواء الإسلام، وصار في هذا ضرر على الأمة الإسلامية.
فإذا كانت لحوم الناس بالغيبة لحوم ميتة، فإن لحوم العلماء ميتة مسمومة، لما فيها من الضرر العظيم، فلا تستغرب إذا سمعت أحدا يَسُبُّ العلماء! وهذا رسول الله ﷺ قيل فيه ما قيل، فاصبر، واحتسب الأجر من الله عز وجل، واعلم أن العاقبة للتقوى، فمادام الإنسان في تقوى وعلى نور من الله عز وجل فإن العاقبة له.
وكذلك يوجد بعض الناس يكون له صديق أو قريب يخطئ مرة واحدة فيصفه بالعيب والسب والشتم والعياذ بالله في خطيئة واحدة.
على هذا الذي وُصِفَ بالعيب أن يصبر، وأن يعلم أن الأنبياء قد سبوا وأُوذوا وكذِّبوا، وقيل إنهم مجانين، وإنهم شعراء، وإنهم كهنة، وإنهم سحرة ﴿فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾ (الأنعام: 34)، هكذا يقول الله عز وجل.
ففي هذا الحديث: دليل على أن للإمام أن يعطي من يرى في عطيَّته المصلحة ولو أكثر من غيره، إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام، ليست مصلحة شخصية يحابي من يحب ويمنع من لا يحب، ولكن إذا رأى في ذلك مصلحة للإسلام وزاد في العطاء، فإن ذلك إليه وهو مسؤول أمام الله، ولا يحل لأحد أن يعترض عليه، فإن اعترض عليه فقد ظلم نفسه.
وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام يعتبر بمن مضى من الرسل، ولهذا قال: (لقد أُوذي موسى بأكثر من هذا فصبر)، لأن الله تعالى يقول ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَاب﴾ (يوسف: 111)، ويقول: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه﴾ (الأنعام: 90)، فأمر الله نبيه ﷺ أن يقتدي بهدي الأنبياء قبله.
وهكذا ينبغي لنا نحن أن نقتدي بالأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ في الصبر على الأذى، وأن نحتسب الأجر على الله، وأن نعلم أن هذا زيادة في درجاتنا مع الاحتساب، وتكفير لسيئاتنا. والله الموفق.
No comments
Post a Comment