شرح حديث / لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله
أحاديث رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين
أحاديث رياض الصالحين
باب المبادرة إلى الخيرات الحديث رقم 95
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول ﷺ قال يوم خيبر: (لأعطين هذه الراية رجلًا يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه) قال عمر رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، فدعا رسول الله ﷺعلى بن أبي طالب- رضي الله عنه، فأعطاه إياها، وقال: (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك) فسار على شيئًا، ثم وقف ولم يلتفت؛ فصرخ: يا رسول الله، على ماذا أقاتل الناس؟ قال: (قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله) رواه مسلم.
(فتساورت) هو بالسين المهملة: أي وثبت متطلعًا.
الشرح
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيما نقله عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺقال يوم خيبر: (لأعطين هذه الراية رجلًا يحب الله ورسوله)، وفي لفظ: (ويحبه الله ورسوله) يوم خيبر: يعني يوم غزوة خيبر، وخيبر حصون ومزارع كانت لليهود؛ تبعد عن المدينة نحو مائة ميل نحو الشمال الغربي، فتحها النبي عليه الصلاة والسلام كما هو معروف في السير، وكان الذين يعملون فيها اليهود، فصالحهم النبي عليه الصلاة والسلام على أن يبقوا فيها مزارعين بالنصف؛ لهم نصف الثمرة، وللمسلمين نصف الثمرة، وبقوا على ذلك حتى أجلاهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -في خلافته، أجلاهم إلى الشام وإلى أذرعات.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لأعطينه الراية رجلًا يحب الله ورسوله) الراية: هي ما يسمى عندنا العلم، يحمله القائد من أجل أن يهتدي به الجيش وراءه، فقال: (لأعطينه الراية رجلًا يحب الله ورسوله) وقوله: (رجلًا) نكرة لا يعلم من هو، قال عمر بن الخطاب: فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ، رجاء أن يصيبه ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، فتسورت لها وبات الناس تلك الليلة يخوضون ويدوكون، كل منهم يرجو أن يعطاها، فلما أصبحوا قال النبي ﷺ: أين على بن أبي طالب؟ ابن عمه قالوا: يا رسول الله، إنه يشتكي عينيه، يعني عنده وجع في عينيه، فدعا به، فجاء، فبصق في عينيه؛ فبرأ كأن لم يكن به وجع في الحال، والله على كل شيء قدير، ثم أعطاه الراية، وقال له: (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله).
ففعل -رضي الله عنه -فلما مشى قليلًا وقف، ولكنه لم يلتفت؛ لأن النبي ﷺقال له: لا تلتفت، فصرخ بأعلى صوته: يا رسول الله، على ماذا أقاتلهم؟ دون التفات؛ لأن الرسول ﷺ قال لا تلتفت؛ قال: (قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)؛ هذه الكلمة كلمة عظيمة، ولو وزنت بها السماوات والأرض لرجعت بالسماوات والأرض، هذه الكلمة يدخل بها الإنسان من الكفر الإسلام، فهي باب الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، (فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) يعني إذا قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فإنهم لا يقاتلون، منعوا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، أي بحق لا إله إلا الله؛ أي بالحقوق التابعة لها؛ لأن لا إله إلا الله ليست مجرد لفظ يقوله الإنسان بلسانه، بل لها شروط ولها أمور لا بدَّ أن تتم، ولهذا قيل لبعض السلف: إن النبي ﷺ قال: (مفتاح الجنة لا إله إلا الله)؟ فقال نعم، مفتاح الجنة لا إله إلا الله، لكن لا بدَّ من عمل؛ لأن المفتاح يحتاج إلى أسنان، وقد صدق رحمه الله: المفتاح يحتاج إلى أسنان، لو جئت بمفتاح دون أسنان ما فتح لك.
إذن: قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إلا بحقها) يشمل كل شيء يكفر به الإنسان مع قول لا إله إلا الله، فإن من كفر وإن كان يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكنه أتى بمكفر؛ فإن هذه الكلمة لا تنفعه.
ولهذا كان المنافقون يذكرون الله، يقولون: لا إله إلا الله، وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم، هيئتهم وشكلهم كأنهم أكمل المؤمنين إيمانًا، ويأتون للرسول ﷺيقولون له: نشهد إنك لرسول الله، الكلام مؤكد بثلاث مؤكدات (نشهد) و(إن) و(اللام) في (نَشْهَدُ إِنَّك لَرَسُولُ َاللَّهُ) فقال رب العزة والجلال الذي يعلم ما في الصدور: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكاذِبُونَ ﴾ ]المنافقون: 1[، أعطاهم شهادة بشهادة، يشهد إن المنافقون لكاذبون، وأكد الله -عز وجل -كذب هؤلاء في قولهم: نشهد إنك لرسول الله، بثلاثة مؤكدات، فليس كل من قال لا إله إلا الله؛ يعصم دمه وماله؛ لأن النبي ﷺ استثنى فقال: (إلا بحقها).
ولما منع الزكاة من منعها من العرب بعد وفاة النبي ﷺ، واستعد أبو بكر -رضي الله عنه -لقتالهم، تكلم معه من تكلم من الصحابة، وقالوا: كيف تقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ قال رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، الزكاة حق المال، وقد قال النبي ﷺ: (إلا بحقها) فقاتلهم -رضي الله عنه -على ذلك، وانتصر ولله الحمد.
فالحاصل: أنه ليس كل من قال لا إله إلا الله، فإنه يمنع دمه وماله، ولكن لا بدَّ من حق، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: لو أن قرية من القرى تركوا الأذان والإقامة؛ فإنهم لا يكفرون، ولكن يقاتلون، وتستباح دمائهم حتى يؤذنوا ويقيموا، مع أن الأذان والإقامة ليسا من أركان الإسلام، لكنها من حقوق الإسلام، قالوا: ولو تركوا صلاة العيد مثلًا، مع أن صلاة العيد ليست من الفرائض الخمس، لو تركوا صلاة العيد وجب قتالهم، يقاتلون بالسيف والرصاص حتى يصلوا العيد، مع أن صلاة العيد فرض كفاية، أو سنة عند بعض العلماء، أو فرض عين على القول الراجح، لكن الكلام على أن القتال قد يجوز مع إسلام المقاتلين؛ ليذعنوا لشعائر الإسلام الظاهرة؛ ولهذا قال هنا: (إلا بحقها).
وفي هذا الحديث دليل على أنه يجوز للإنسان أن يقول: لأفعلن كذا في المستقبل، وإن لم يقل: إن شاء الله. ولكن يجب أن نعلم الفرق بين شخص يخبر عما في نفسه، وشخص يخبر أنه سيفعل، يعني يريد الفعل.
أما الأول فلا بأس أن يقول سأفعل دون إن شاء الله؛ لأنه إنما يخبر عما في نفسه، وأما الثاني: الذي يريد أنه يفعل؛ أي يوقع الفعل فعلًا.
فهذا لا يقل إلا مقيدًا بالمشيئة، قال تعالى:﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه ُ﴾] الكهف: 23-24[، فهناك فرق بين من يخبر عما في نفسه، وبين من يقول إنني سأفعل غدًا. غدًا ليس إليك، ربما تموت قبل غد، وربما تبقى، ولكن يكون هناك موانع وصوارف، وربما تبقى ويصرف الله همتك عنه، كما يقع كثيرًا، كثيرًا ما يريد الإنسان أن يفعل فعلًا غدًا أو آخر النهار، ثم يصرف الله همته.
ولهذا قيل لبعض الأعراب -والأعراب سبحان الله عندهم أحيانًا جواب فطري -قيل له: بم عرفت ربك؟ فأجاب قائلًا: الأثر يدل على المسير، والبعير تدل على البعير. فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ - الله أكبر -أعرابي لا يعرف؛ لكنه استدل بعقله، فهذه الأمور العظيمة ألا تدل على خالق يخلقها ويدبرها؟ بلى والله.
وسئل آخر: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصرف الههم؛ فكيف هذا؟ يعزم الإنسان على شيء ثم تنتقض عزيمته دون أي سبب ظاهر، إذن: من الذي نقضها؟ الذي نقض العزيمة هو الذي أودعها أولًا، وهو الله عز وجل، وصرف الههم؛ حيث يهم الإنسان بالشيء -وربما يبدأ به فعلًا -ثم ينصرف.
إذن نقول: إن في هذا الحديث دليل على أن الإنسان له أن يقول سأفعل كذا؛ إخبارًا عما في نفسه، لا جزمًا بأن يفعل، لأن المستقبل له الله، لكن إذا أخبرت عما في نفسك فلا حرج. والله الموفق.
الحمد لله رب العالمين
![]() |
اللهُم ارحم مَوتانا مِن المُسلِمين واجمعنا بهِم فيِ جَنّات النَعيمْ تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال |
No comments
Post a Comment